حجزت لإسمها مكانا بين المصطلحات المتداولة، حتى صار لفظا وصفيا ليس إلا، و في أحسن الأحوال مطلع جمل سائدة بين العامية. “زعير الخونة” “شاط الخير على زعير فرقوه بالمغارف”… و غيرها من عبارات تنكيل و استهزاء بقبيلة لم تنل من جود الأيام إلا ما غفل عنه جلادوها. و شهد شاهد من أهلها
لعل أبرز ما يجعل المرء يتساءل و يحير في تناقضات الواقع هو كون ضاحية العاصمة الرباط و أحد الأجزاء الرئيسية للجهة قاطبة، تعيش تخلفا لا يتصور مقارنة بموقعها الجغرافي و مؤهلاتها الطبيعية و البشرية، إضافة إلى سقوطها سهوا أو بالأحرى عنوة من صفحات التاريخ.
فكيف يعقل في مغرب يتغنى بالتنمية البشرية أن قبيلة تتميز بشساعة مساحتها و تنوع تضاريسها و موقعها الإستراتيجي قبيلة بأكملها لا تحتضن قطبا حضريا حقيقيا يتوفر على أدنى مقومات التحضر؟
كيف يعقل أن المنطقة برمتها مقصية من مشاريع تنموية كبرى تدعمها شأنها شأن باقي مناطق المملكة؟
كيف يعقل أن منطقة لعبت دورها في تاريخ المغرب و المقاومة، و تشكل جزءا من يوميات العائلة الملكية، تبقى محرومة من حق التبرئة و العرفان؟
كلها أسئلة تبحر بالعارف و لو قليلا بقبيلة زعير في غياهب التيه و الافتراض، إلا أن التحليل الأقرب للمنطق و الواقع يبقى مبنيا على شهادة أناس شاخوا و نهلوا من ذكريات الأمس ما لا تسعه أرشيفات الباحثين الأكاديميين، لأنهم ببساطة ذاكرة حية نجهل قيمتها و قيمة معطياتها المتناقلة كتراث شفاهي لا يفرض و لا يرفض أن يورث، يكفي السؤال بحسن نية و تيقن المصادر و مطابقة الشهادات للحصول على صفحات من التاريخ المنسي عمدا.
استوقفني رجل لما استفزيت انتماءه لهذه القبيلة، و نعتتها عمدا بقبيلة الخونة، فصار يعرج على صفحات تؤرخ لزعير بمنظور ظل غريبا عني و عن عموم الناس، ألا و هو أصل العبارة و كيف تم إلصاق التهمة بقبيلة لم تتوانى يوما عن الذود عن حوزة الوطن، و لبى أبناؤها نداءه في كل محطات النضال، ليروي لنا ما يتداوله العديد ممن عاصروا هذه الأحداث عن قرب أو شاركوا فيها، فلنستمع لشهادة تنبذها كتب التاريخ و تأويها ذاكرة الشعب.
الباشا امحمد
يحكى أنه في عهد الحماية، حيث كان القياد أصحاب سلطة و سلطان لا يعلى عليهم، تربع على سدة حكم قبيلة زعير قائد مستبد و محنك، قائد صنع لنفسه مكانا بين الكبار و ما عرف لطموحه حدودا، إنه القايد امحمد، الرجل الذي لن ينساه الضالعون بتاريخ القبيلة و لا حتى تاريخ المغرب قاطبة، لن أروي لكم صولاته و جولاته الديكتاتورية و لا حتى همجية أحكامه المتسلطة، لكن الأهم من هذا كله، أن القايد امحمد هو الشخص الذي خان، و علقت خيانته على شماعة قبيلة زعير برمتها، و الطريف في الأمر أنه لم يكن ينتسب للقبيلة حتى الانتساب بل ينتمي لمنطقة الشاوية.
كان طموح القايد يسوقه نحو هرم السلطة، و لم يشبع حكم المنطقة جشعه بل كان يضع نصب أعينه أبواب المشور كيف لا و أمامه طريق زعير الفاتحة ذراعيها لرحاب القصر الملكي و عاصمة المملكة، عزف القايد امحمد على وتر الحماية و استحق ثقة المستعمر ليكون عميلا، إلا أنه كان أمكر من أن يكشف كل أوراقه، بلغ مبتغاه بعد نفي السلطان محمد بن يوسف ليجد نفسه يعين باشا و يتوغل بين زمرة الحاشية المقربة من ملك الفرنسيين الرمزي ابن عرفة، و حينما ثار الشعب و حاول علال بن عبد الله اغتيال دمية الاستعمار كان الباشا امحمد حاضرا، بفراسته و ربما لقوة حدسه و معرفته بإمكانية نجاح ثورة الملك و الشعب تكلف بدفن جثمان الشهيد علال بن عبد الله، و قام بدفنه في مكان مجهول بمنطقة زعير بقي وحده كاتم سره إلى أن يرى ما ستؤول له الأوضاع.
عشرون سنة سجنا لقبيلة زعير
عند عودة السلطان و استقلال المغرب، شهدت البلاد حملات تصفية للخونة، كان بديهيا أن يكون القايد امحمد ضمن اللائحة، إلا أنه استبق الأحداث لائذا بالفرار إلى فرنسا، غير أن طمعه في العودة إلى المغرب و إلى حياة السلطة جعلاه يساوم سماسرة القصر و أخرج ورقة براءته ألا و هي جثمان الشهيد الذي لم يوجد له أثر. لبس الباشا امحمد ثوب الوطنية، و ادعى ذلك مستدلا بحفاظه على جثة علال بن عبد الله التي دفنها بيده في مكان غالبا بملكياته الواسعة بزعير، مكان وحده يعرف طريقه ، -و هذه معلومة ذهلت لمعرفتها كونها غير مذكورة البتة في كتب التاريخ-، لم تنفع مناورات الباشا امحمد إذ لقي حذفه على يد رجال المخابرات المغربية لأن الخيانة لا تغتفر عموما فبالأحرى لدى ملك ذاق من كأسها كالحسن الثاني مرارا.
كلها هذا يعكس لقطات من تاريخ خفي كتب على قبيلة زعير غضبة ملكية، إذ أمر الملك الراحل محمد الخامس بعد معرفته بخيانة الباشا امحمد بالسجن عشرين سنة على المنطقة لا نمو و لا اهتمام تعرفه كرد على خيانتها للعرش، الأمر المؤكد أن أمر الملك لم يمنعه من مواصلة ارتياد المنطقة قصد الاستجمام و القنص في ضيافة القايد بوعزة، و هذا ما أرخه قاضي زعير و آخرون.
هذا الحكم الذي استمر لعقود و تجاوز المدة المحددة، لم يكن ليناقش و لا ليعرف، إلا بعد سنين و سنين لما ارتأى الحسن الثاني العفو عن خونة أبيه الذين يعرفهم حق المعرفة و هو الذي يتجول بين أراضيهم دون خوف و لا حراسة، إنما كان لزاما جس نبضهم و تحري أمر ولائهم.
عقا الطعم أم أخطر المجرمين
في منتصف سبعينيات القرن الماضي، في فترة كان المغرب على كف عفريت، و المقاربات الأمنية في قمة أوجها، تم الاعلان عن هروب يمكن وصفه لأخطر المجرمين إذ تمت التعبئة القصوى لإلقاء القبض على الجندي الهارب عقا. استنفار أمني عم ربوع المملكة و حملات تمشيط و حواجز تفتيش فائقة الدقة، لم يسلم منها حتى القادمون من خارج المغرب إذ ذعروا لكل هاته الإجراءات و من يكون هذا الجندي لتقوم الدنيا و لا تقعد بحثا عنه، عقا هذا لم يكن جنديا عاديا بل متمرسا مدربا على أعلى المستويات مهمته الهروب عبر قبيلة زعير بتضاريسها المتنوعة و دون السقوط في يد قوات الأمن بمختلف فصائلها، قضى عقا أياما يعبر من قرية لأخرى متواريا عن الأنظار، فلا يعقل أن يكون هناك مكان في المغرب لم يعرف قاطنوه ضرورة القبض على عقا الهارب.
لم يجد عقا بديلا عن التوجه نحو إحدى المنازل التي استوقفه الجوع و العطش قربها، في حالته المزرية و في مغرب عرف عنه الجود و إكرام الضيف، استقبل المزارع الذي يعمل خماسا لدى إحدى العائلات الميسورة بالمنطقة ضيفه و أكرم وفادته، إلا أنه توجس أمره و فطن لهويته، فما كان منه إلا أن قصد إبن مشغله الذي كان دركيا و أبلغه أن أكثر المطلوبين في المملكة ببيته، بدوره الدركي أعلم السلطات التي أمسكت عقا و أنهت مسلسل مطاردة أخطر مجرم بالمغرب، لتكون زعير بذلك اجتازت امتحان الثقة بنجاح و يأمر الحسن الثاني أحد وزرائه آنذاك عبد القادر بنسليمان بالاعداد لتنمية زعير، تنمية لم ترى النور للأسف.
معاناة قبيلة زعير بسبب امرأة
كل هذه الأحداث التي أثرت سلبا على مسار التنمية بمنطقة زعير كان سببها امرأة، حيث أن خيانة الباشا امحمد للعرش كانت مبنية على أساس عداوة تولدت تجاه القصر الذي وقف بجانب القايد بوعزة، إذ أن صراع الطرفين كان للظفر بقلب امرأة أغرم بها الاثنان، لكن القايد بوعزة تزوج بها قبل الباشا امحمد الذي كان لايزال قائدا، و وصلت ضراوة النزاع حد إقدام القايد امحمد على تجييش الناس للهجوم على القايد بوعزة و استرجاع المرأة التي سلبت قلبه أو تسببت في خدش كبرياءه، فما كان إلا أن قام القايد بوعزة ببعث زوجته للقصر، ما أطفأ نار المعركة، و وسع دائرة الحرب و الأعداء لدى القايد امحمد لتشمل الملك بعينه.
من هنا أطلق العنان لمخططاته و حنكته السياسية لتبلغ مستويات أرفع، طموح و رغبة بالانتقام ما زادوا إلا الطينة بلة، لتكون قبيلة زعير ضحية للباشا امحمد إبان سلطته و حكمه، و كذا بعد هروبه و حتى موته.
حاضر مزر و مستقبل مجهول
في بلد يوصف تاريخه بالأسود أو المجهول، قد يكون الراوي مصيبا أو مخطئا رغم استناده على رواية مصادر عايشت الشخصيات المعنية بالأمر عن كثب أو كانت طرفا في الوقائع، و رغم جسامة الأحداث و خطورة مفادها إن صحت، فما يهمني و ما أنا مدرك صحته هو أن زعير كقبيلة تستحق رد اعتبار فعلي، و وقفة رجولية للنهوض بها جذريا و وضعها في سكة التنمية، و مع احترامي لكل مناطق المغرب، إن كانت صخور الرحامنة أغدق عليها من نعيم المشاريع الكبرى و هي ليست إلا صخورا، فعيب أن منطقة زعير ظل العاصمة و مقصد الملوك للاستجمام و الصيد و النزهة لا تشرب من نفس الكأس كباقي الجهات.
عيب أن يضل ساكنة زعير يتخبطون في براثن الجهل و التخلف، فعلى بعد أقل من مائة كلم من العاصمة الرباط، في القرن الواحد و العشرين هناك مناطق تعاني العزلة و لا تطِأها إلا حوافر الدواب،
مناطق يجهل أبناؤها حقا دستوريا اسمه التمدرس،
مناطق يلتزم ساكنتها بمماطلة المرض و برمجته ليصادف يوم السوق الأسبوعي كون الطبيب قد يأتي يومه إن حالفهم الحظ، هذا إن كان هناك مستوصف،
مناطق يفضل الدركي أخد إتاوة من اللصوص و المجرمين على إمساكهم و ضمان أمن الساكنة،
مناطق يجهل قاطنوها معنى أن يكونوا مواطنين، و لم العجب إن كان المغرب يجهل معنى أن يكون لهم وطنا.