تقع مدينة الرّماني على بُعْد 81 كيلومترا من العاصمة الإدارية الرباط، وتبْعُد عن مدينة الدار البيضاء بـ110 كيلومترات، وتحتلُّ موقعا جغرافيّا متميّزا، بتموقعها وسَط سهول “التيرس” بزمور زعير، المعروفة بخصوبة أراضيها الفلاحيّة، لكنْ لا قُربُها من العاصمتيْن الإدارية والاقتصادية، ولا خصوبة أراضيها، أفادَا ساكنتَها في شيء، في ظلِّ التدهورِ الذي تعرفُهُ على جميع المستويات، كمَا عاينتْ ذلك هسبريس.
مدينة محفوفة بالتهميش
تُعتبر مدينة الرمّاني ثاني مدينة مغربيّة تأسّستْ بها باشوية بعد مدينة وزّان؛ المبنى القديم للباشوية يقعُ على تَلٍّ في مدخل المدينة الصغيرة، التي تأسست سنة 1911، ويكْفي المرْءَ أنْ يتأمّل وضعية البناية التاريخية ليَتشكّل لديه انطباعٌ عنْ حالِ باقي مرافق “الرمّاني”، التي تؤكّدُ لوحة الإرشادات عندَ مدخلها أنّها مدينة، بيْنما هي في الواقع أقربُ ما تكونُ إلى بَلْدةٍ صغيرة، يَحُفّها التهميش من كلّ جانب.
“دار الباشا امحمد” أضْحت أطلالا متداعيّة، “رغمَ أنّها تراث عتيق ينبغي صيانته”، يقول العربي شفوق، الكاتب المحلي للعصبة المغربية للدفاع عن حقوق الإنسان- فرع الرماني، وفاعل جمعوي، ويضيف أنَّ الرمّاني كانتْ تضمّ فُندقا، وحيّا صناعيّا، ومعملا لإنتاج المُربّى، وتعاوُنيّة للحبوب، “أمّا الآن فقد فقدت المدينة كلّ هذه المرافق، وصارتْ مُصدّرة للهجرة بامتياز”، يُردف المتحدث.
ويطرحُ سكّان “مدينة” الرماني علاماتِ استفهام كثيرةً حوْل الأسباب التي أدّتْ إلى اندحار “مدينتهم” الصغيرة في هاوية التهميش والإقصاء، رغْم أنّها لا تبْعدُ عن العاصمة الرباط سوى ببضع عشراتِ كيلومترات. وبالنسبة للعربي شفوق، فهناك مجموعة من الإشكالات، يأتي على رأسها كون المجالسَ الجماعية المتعاقبةَ “لا تتوفر على رُؤية تؤمن باستثمار الثروات الهائلة التي تتوفر عليها المدينة قصد تنميتها”.
ويتقاطعُ هذا السبب بسبب آخر، بحسب شفوق، وهو “الممارسة السياسة بمفهومها الضيّق”، موضحا أنَّ ما هو مَحلي يُفرمل ما هو إقليمي وجهوي، والعكس صحيح، بسبب وجودِ صراعات سياسيّة، على حدّ تعبيره، موردا باستغراب: “هذه المدينة تقع في سهْلٍ معروف بخصوبة أراضيه، لكنَّنا لا نتوفر على مطاحن، ولا معامل، ولا مرافقَ لاستقطابِ اليد العاملة، ونشكّ في أنّ هذا الأمر مقصود”.
مَطْرحٌ وسطَ حيٍّ آهل بالسُّكان
في “مدينة” الرماني، ثمّة أربعة مشاكل رئيسية تقضّ مضاجع السكّان، وهيَ البيئة، والصحّة، والتعليم، والبنية التحتيّة. بالنسبة لمشكل البيئة، مردّه إلى وجودِ مطرح للنفايات لا يبعد عن أحد الأحياء السكنية سوى بأقلَّ من 100 متر. بالقُرْب من هذا المطرح، تجلسُ نساءٌ متقدّمات في السنّ يطبخن الخبز في أفرانٍ تقليدية، وسطَ هواءٍ مشحونِ بروائح كريهة تنفذ إلى البيوت من النوافذ والأبواب.
وسَط مطرح النفايات الواقع في منحدرٍ تَلّي، جوارَ “حيّ النهضة”، ثمّة أغنامٌ تقتاتُ من النفايات، وحمير وكلابٌ وطيور.. ولإسكاتِ أصوات السكّان المحتجّين، عَمَدت الشركة المكلّفة بتدبير قطاع النظافة إلى حفْر حفرة كبيرة، وطمرتْ فيها أطنانَ الأزبال، “لكنّ هذا الحلَّ ترقيعي ولا يُمْكن أن نقبله، لأنه مجرّد ذرّ للرماد في العيون”، يقول الحسن الحاضي، وهو فاعل جمعوي.
خلالَ السنة الماضية، خاضَ سكان الرماني اعتصاما دامَ عشرة أيام، للضغط على السلطات ومسؤولي المجلس البلدي لإبعاد مطرح النفايات عن مدينتهم، كما قاموا بمراسلة عامل الإقليم، لكن كلّ ذلك لمْ يُفْض إلى أيّ تفاعُل من طرف السلطات المحليّة أو المجلس الجماعي، بحسب ما أفادَ به الحسن الحاضي، مبرزا: “حينَ اشتدّتْ احتجاجاتنا، قامَت البلدية بطمر النفايات، لكنَّ هذا ليس سوى مُناورة”.
بسُخرية ممزوجة بالمرارة، يُردف الفاعل الجمعوي: “شركة التدبير المُفوّض تشحنُ الأزبالَ وترْميها على بُعْد مائة متر فقط من المدينة، وقدْ كانَ أوْلى بهم أنْ يتركوا الأزبال في مكانها أمام بيُوتنا”، لافتا إلى أنَّ طمْر الأزبال ستكون له تداعيات خطيرة على صحّة الساكنة، حيثُ ستنفذ السموم إلى الفرشة المائية، كمَا ستتضرر منها الأراضي الفلاحية، فضلا عنْ أنّ الأغنامَ ترعى فيها، فيأكل الناس ما تقتات منه من أزبال حينَ تُذبح ويُباع لحمها.
من جهته قالَ مواطن يقطن في حيّ النهضة، المجاور لمطرح الأزبال، إنّ المطرح يشكّل مشكلا مؤرقا للساكنة، “الوالدة مْرضات بْسبابْ هاد المطرح، وتحتاج إلى 750 درهما كلّ شهر من أجل العلاج، والدّراري الصغار أغلبهم مريض، واللّي ما مْريضْشْ دَبا غادي يمرض مستقبلا، وما كاينش حتّى فين يْدّاوا”، يقول المتحدث، وحينَ سألناه عمّا يريد قوله للمسؤولين ردَّ بتأفُّف: “ما كايْن لا مسؤولين لا والو، كلّ مْرّة كايديرو هاد السّلاك (طمر الأزبال)، وحْنا كانقولو بأنّ الحلّ هو يتحيّد هاد المطرح من هنا”.
وادٌ حار يصبّ وسط ثانوية
في “مدينة” الرمّاني، يتعايشُ الناسُ مع شتى أنواعِ المخاطرِ المُهدّدة لصحّتهم، وللبيئة التي يعيشون فيها. ففي عدد من النقط، تجري مياهُ الصرف الصحي في مجاريَ غيرِ مُغّطّاة، بلْ إنها تصبُّ وسطَ ساحة الثانوية بالمدينة، بحسب ما أكّدَ أكثر من مواطن، وهُوَ ما يهدّدُ السلامة الصحية للتلاميذ والأساتذة والأطر التربوية على حدّ سواء؛ “هادْشي كامْلْ خاسْر، قْهراتنا هاد الدنيا، غير محبوسين فيها وصافي، كونْ لقينا فين نْهرْبو ما نبقاوش فيها”، يقول رجلٌ خمسيني.
وفيما يخصُّ موضوع التعليم، قالَ العربي شفوق إنه “كارثي”، مشيرا إلى أنّ التقسيمَ الإداري الجديد فرض على التلاميذ الذين تبعد مساكنهم عن الرّماني بكيلومترين فقط، أن يدرسوا في مرشوش البعيدة بـ15 كيلومترا، أمّا عنْ فضاءات الترفيه، فثمّة مسبحٌ في ملكية المجلس الجماعي، لكنّ أبوابه موصدة، نظرا لكون الشركات التي يُفوّتُ لها قصْد تدبيره تتكبّدُ خسائر مالية، بسبب افتقار المسبح إلى تجهيزات، بحسب ما أفاد به الحسن الحاضي.
أمّا شباب المدينة، فيقول العربي شفوق إنّهم يضطرون إلى الهجرة، بحْثا عن العمل في الرباط والدار البيضاء، حتى إنّ “مدينة الرماني صارتْ مدينة مُصدّرة للهجرة بامتياز”، كما قال، مشيرا إلى أنَّ عدد سكان الرماني، البالغ 12 ألف نسمة، لم يزددْ، ما بين سنتي 2004 و2014، سوى بحوالي أربعين شخصا، مبرزا أنَّ هذه الأرقام يؤكّدها إحصاء المندوبية السامية للتخطيط، ومتسائلا: “هل هذا مقصود حتّى نصدر اليد العاملة إلى الرباط بأسعار رخصية؟”.
سكّان “مدينة” الرماني لا ينظرون بعيْن الرضا إلى عمل المجلس الجماعي المكلّف بتسيير شؤون “مدينتهم”، والذي تعذّر أخذ رأي رئيسه لوجود هاتفه خارج التغطية، ويقول العربي شفوق، “المجلس البلدي يفتقر إلى الإبداع لمعالجة مشاكل المدينة، فعمله لا يتعدّى حدودَ الأدوار التقليدية، من إنارة وتزفيت، ويا ليْته يقوم بهذه الأدوار على النحو المطلوب”، لافتا إلى أنّ سكّان الرمّاني يعانون من الانقطاعات المتكررة للتيار الكهربائي منذ سنوات، وما زالَ هذا المشكل قائما.
وفي خضمّ تنامي غضبِ سكّان الرماني منْ أوضاع “مدينتهم”، تشكّلت “لجنة تكافؤ الفرص والمشاركة”، بهدف إعطاء الفرصة للمجتمع المدني لطرح المشاكل التي يعاني منها السكان، انطلاقا ممّا جاء به دستور 2011، وهيَ مبادرة يقول العربي شغوف “إننا نتوسم فيها خيرا، ولكننا ننتظر ما سيؤول إليه الوضع مستقبلا”، أمّا الرجلُ الذي قالَ “حْنا غير مْحبوسين هنا وصافي”، فيَرى أنّ مسؤولي المجلس البلدي يعرفونَ كلّ شيء، وتساءل: “واش حنا غادي نبقاو مقابلينهم نُورّيوْهم اشنو كايْن، راهم عارفين هادشي كامل، وكونْ بغاو يديرو شي حاجة كونْ داروها”.
عن هسبريس